تحية عسكرية لهذا الجيش الذي نشعر معه بأننا دولةٌ: من شعبٍ وجيش، في انتظار الشبح الآتي من الجرود والذي إسمه الحكم.
بين «فجر الجرود» وظلام العهود بارقةٌ من مشروع ضوء...
والجرود المكثّفة بالضباب هي التي تحجب نور الفجر فلا تُطلُّ علينا من خلفها الشمس إلا مكسوفةً.
معركة «فجر الجرود» في أبعادها غير المعلنة، هي أكثر من معركة على أكثر من جرود، وعلى أكثر من ساحةٍ وجبهةِ قتال، وقد تنتهي بأكثر من انتصار.
أبرز ما في انتصاراتها أنها فضلاً عن: تحرير الأرض، وتعزيز وحدة الجيش بوحدة الدم، وعن المنافسة في تدفّق العواطف الجياشة نحو الجيش، فقد حاصرت هذه المعركة المحاولات الساعية لأن يكون لكل فريق جيشه، ولكل زعيم جيشه ولكل حزب جيش، من خلال التشكيك بقدرة الجيش وطاقاته.
وهي التي برَّدتْ تشنُّجات الحرب الباردة التي يتقاتل فيها أركان السلطة وأهل الحكم. والحرب الباردة لمن لا يعلمون، هي مصطلحٌ استخدمه الإسبان في القرن الثالث عشر لوصف تعايشهم الصعب مع المسلمين في البحر الأبيض المتوسط.
إذا صحّ أن نسلّم بالإفتراض: أنه حُرِّم على الجيش اقتحام الجرود من قبْلُ، وقبْلَ أن تصبح الأرض سائبة تعلّم الناس الحرام، فإنّ القتال في هذه الحال لا تنطبق عليه حكمة «الهندوس» الذين حُرِّم عليهم سفك الدماء، فاخترعوا لعبة الشطرنج ليمرّنوا جنودهم على القتال البريء، ففي زمن سفك الدم البريء، لا يلعب الجيش بالقتال البريء، وفي زمن تحرير الأرض لا تستنفر لعبة الشطرنج الجيش بل لعبة الشاعر أبي تمام في قوله:
ومَنْ أخَذَ البلادَ بغيرِ حربٍ يهونُ عليهِ تسليمُ البلادِ.
على أن البلادَ، وأيَّ بلادٍ لا يقتصر تحريرها على الأرض وجرودها، في معزل عن تحرير النفوس الفاسدة والعقول الشاردة، فالأرض تتحرَّر بمن عليها، وتكبر بمن عليها وتصغر، ولا قيمة للأرض إنْ تحررت، إذا كان أهلها مستعبدون وحكامها فاسدون.
ولا يكفي أن نتحرر من داعشية الجرود في معزل عن داعشية الساحل وداعشية الداخل، وداعشية السرايات والوزارات والمؤسسات والإقطاعيات وأمراء دولة التكفير.
مثلما كان الجيش في الجرود هو الحل، فقد يكون أيضاً هو الحل في الداخل، ولكن بالمعنى الذهني لا بالمعنى العسكري، بمعنى التضحية بالدم في سبيل وحدة الأرض ووحدة الشعب ووحدة الوطن، فتشبّهوا بهِ إنْ لم تكونوا مثله، ولا ترشقوه بالسهام سراً، وتقابلوه بالورد علناً وصحون البخور.
أين كانت الرؤوس الكبيرة والمقامات المتشامخة والقامات العالية والهامات، في ظلِّ جيوش الوصاية وانحسار ظلِّ الجيش؟
وأين أصبح الذين كانوا في عهد الرئيس فؤاد شهاب على أكتافهم تسطع النجوم وعلى أيديهم تلمع السيوف، حين غُيِّبَ الجيش فغابتْ معه السلطة وتفكّكت الدولة واحتُلَّت الأرض.
قيمة تحرير المئة والعشرين كيلومتراً من أرض الجرود تكمن أيضاً في تكريس سلطة الدولة على أرضها، وعليها تقاس القيمة الفريدة والمميزة للـ10452 كيلومتراً مربعاً على المستوى العالمي.
مهما ارتفعت قيمة أرضٍ في العالم وسمَتْ، فقد يظل مرقد العنزة في لبنان تراباً مذهَّباً على المستوى التاريخي والإنساني ولا مثيلَ كونيَّاً له على المستوى الحضاري.
يقول كمال جنبلاط في كتاب «المعرفة زاد الإنسان»، «أمسك هذه التربة بيدك يا بنيّ فهي مزيج من رفات الجدود، لقد امتزج فيها دم المسيحي
والدرزي والمسلم واليهودي، فهي وحدة لا تتجزَّأ...»
ونحن نقول: أمسكوا في قبضاتكم ذخائر من هذه التربة المقدسة وتوقفوا عن بيع هذا التراث بالمزاد العلني.
واخلعوا نعالكم عند دوس تراب لبنان فهو مزيجٌ مِنْ رفاتِ شهادةٍ ودم.
واخلعوا عن رؤوسكم التيجان التي استوليتم عليها من المتاحف، فلا بدَّ من فجْرِ جرودٍ آخر يخلع فيه هذا الشعب ملوك العروش المزيّفة.